أيدولوجيات التحول من ثقافة الذاكرة إلى ثقافة الإبداع
إن ثقافة الذاكرة تلك قد جعلتنا بعيدين عن فهم طبيعة عصرنا ومتطلباته، كما جعلتنا عاجزين عن إستيعاب معطيات العلوم الحديثة وبالتالي ابتكارها، وأصبحنا نستورد بدل أن نصدر، بعد أن كنا في قرون سابقة نحن المصدرون للعلوم، فما هي الحلول التي نستطيع من خلالها مواكبة ركب الحضارة في ظل عالم متطور متبدل؟
ويؤسفني القول بأن مصيبة التعليم في العالم العربي، تتلخص في أن المُعلِّم يطلب من الطالب أن يصف له ما لم يره، ويجيب عن ما لم يقرأه، أو يسمع به، أو يعرفه”. وذلك لأن مناهجنا تقوم منذ تأسيسها على مبدأ هام، هو وُصف ما لا يُرى، وهي بهذا تقوم بدور هام، وهو توسيع ملكة الخيال، حتى صار طلابنا وطالباتنا يعيشون في بحر كبير من الخيال، ما إن يخرجوا منه، حتى يفتح كل واحد منهم فمه واسعاً، عند كل تجربة.
هل يستمر أبناؤنا على أسلوب التلقين والحشو والصم وثقافة التذكر؟! أم أن هناك تصوراً متوازناً لسياسة التعليم تربط بين المبادىء والثوابت الدينية ومكارم الأخلاق وما يتطلبه عصر (التكنولوجيا) والعلوم الحديثة وضرورة التناغم مع الأسلوب والمنهج الحديث وتحفيز الطلاب على الإبداع ونهل المعرفة ومجاراة العصر بتصور جديد للمستقبل يمكن من مواجهة العالم بتعلم علوم عصرية تحل محل المواد القديمة بذهنية متطورة وتؤدي الى تحول حقيقي في سياسة التعليم المتخلفة بشكل عام باعتماد أساليب قديمة وعرجاء ولا تمت للواقع المعرفي بصلة!
ولن يتحقق ذلك إلا بتعاون جاد من المعنيين بالتعليم في بلادنا خاصة ونحن نملك الامكانات والطاقات البشرية المؤهلة للقيام بمسؤولياتها لتحقيق هذا المشروع التعليمي الحديث في ظل دعم الحكومة لكل جانب حيوي يُساهم في رقي وتأهيل أبناءنا لمواجهة العالم والمستقبل معتصمين بحبل الله جل جلاله ومتمسكين بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم ممتطين صهوة العلم إلى مختلف ميادين الحياة.. وهذا ما نريد؟
يجب أن ندرك بأن المدرسة تعتبر البيئة الثانية التي يواصل الطالب فيها نموه ويتم إعداده خلال مراحل تعليمه للحياة المستقبلية، لأن هذا الإنسان سوف يواجه مشكلات لا وجود لها الآن، لذلك نحن في أمس الحاجة إلى حدوث ثورة في النظام التعليمي، لإعداد جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل يملك إستقلالية الفكر والرأي يتسلح بالفكر الإبتكاري والمعرفة الصحيحة التي ُتنمي روح المبادرة والإبداع.
وينبغي أن يتحول التعليم من مجرد الحفظ والتلقين إلى نوع جديد وهو التعليم الإيجابي الذي يُشارك فيه الطالب من خلاله في عملية التعليم ولتحقيق ذلك يجب أن يكون المناخ التعليمي مناخ ديمقراطي يهدف إلى تعود الطالب على أعمال الفهم والتحليل والنقاش الحر وإبداء الرأي بشجاعة وتقبل آراء الآخرين وكيفية التعامل مع المختلفين معهم في الرأي والاعتقاد بسماحة وقبول الرأي الآخر، والتعود على الإخلاص في العمل والسعي على تجاوز المصلحة الخاصة وتفضيل المصلحة العامة .
تنطلق أهمية دور المعلم في العناية بالموهوبين على إعتبار أنه الركيزة الأساسية في العملية التعليمية في تحقيق الأهداف التعليمية، ولاسيما أن على عاتقه مسئولية عظيمة في تربية النشء، وتوجيههم التوجيه الإسلامي الصحيح، والعمل الجاد على تنمية مواهبهم وكشف استعداداتهم، والاستفادة من جوانب تميزهم، ولا يمكن أن تتحقق هذه المسؤوليات دون توافر المدرس المبدع الذي يدرك أهمية الإبداع، ويحرص على تنمية التفكيرالإبداعي عند الطلاب الموهوبين.
ولعل من أبرز مسؤوليات المدرسة للتعرف على الموهوبين واكتشافهم باعتبارهم أهم مصادر الثروة والقوة في مجتمعنا ومن ثم وجب علينا حمايتهم وتقديم ألوان الرعاية التعليمية المتكاملة لهم ويتم ذلك من خلال الآتي:
- استخدام أدوات وطرق أساليب علمية في الكشف عن الموهوبين.
- إعداد وتأهيل المعلمين وتطوير المناهج التي تحقق إشباع حاجات الموهوبينمع تدريبهم وتنمية مهاراتهم على الأساليب المختلفة للكشف عن الموهوبين والطرق التربوية السليمة للتعامل معهم.
- إتاحة الفرصة أمام المبدعين وتشجيعهم على الإنتاج الإبداعيووضع الاستراتيجيات والبرامج التي تساعد على رعايتهم وتوفير البيئة التي تثري هذه الموهبة مع تشكيل فريق عمل من الخبراء والباحثين للعمل على اكتشاف هذه المواهب لتبدأ الرعاية والصقل والدعم الأدبي والمادي.
- إقامة الندوات واللقاءات المفتوحة للطلاب مع العلماء والمفكرين بهدف توسيع دائرة المعرفة لديهم.
- الاستفادة من أنظمة التعليم للدول المتقدمة، في رعاية المبدعين مثل التجربة اليابانية والأمريكية والسنغافورية والفلندية والكندية… والتي تطبق أساليب مختلفة في رعاية المتفوقين.
- ضرورة توفير المناخ القادر على إظهار الطلابالمُبدعين مع ضرورة إدراج الأنشطة المختلفة الخاصة بتنمية التفكير الإبداعي، ويفضل أن تنطبق عليهم المقاييس المطبقة بواسطة المؤسسة القومية للمنح الدراسية في أمريكا.
- تنمية روح الفريق بين الطلابوتوضيح أهمية العمل الجماعي في كافة المجالات خاصة في مجالات الإبداع الفكري والعلمي لأن العمل الجماعي ينمي ويشجع الإبداع نظراً لتبادل الأفكار والتجارب في ظل مناخ نفسي مناسب بين الأفراد يفتح قدراتهم الإبداعية ويؤكد ذلك.
- ضرورة تطوير مناهج التعليم والمقررات من الحشو الزائد التي تتسم بها وأن تتواءم المقررات في جميع المراحل للمراجعة المستمرة لحذف كل ما جاء بها من تكرار، والعمل على تنمية الفكر في جميع مراحل التعليم وذلك بتدريس مواد جديدة أدخلتها الدول المتقدمة ضمن مناهجها.
- ضرورة إدراج الأنشطة المختلفة بتنمية القدرات الإبداعية لدى الطلاب أثناء اليوم الدراسي الكامل ولعل الأنشطة الثقافية مثل مكتبة المدرسةوالصحافة والإذاعة المدرسية والمسابقات والبحوث الثقافية، وعقد ندوات وفعاليات بالتعاون مع العلماء وأصحاب الفكر المبدعين لعرض تجاربهم.
- محاربة ظاهرة الدروس الخصوصية لأنها تحد وتعيق الإبداع الفكري لدى الطلاب لأنها تدربهم على فن الإجابة للحصول على أعلى الدرجات أي تعلمهن أنماط الأسئلة والإجابة وبالتالي سيتوقف العقل على التفكير في إيجاد حلول أخرى.
- تطوير أساليب التقويم والامتحانات، ويكون من الأفضل لو تخلينا عن تلك الأساليب التي تختبر قدرة الطالب على الحفظ ويتم إستبدالها بأسئلة تستثير التفكير والقدرات النقدية وأداءه الإبداعيأي تساعده على التحول من ثقافة الذاكرة إلى ثقافة الإبداع.
كما أن على أولياء الأمور أن يعلموا جيداً أن واجبهم ومسؤوليتهم تجاه أبنائهم لا يتوقف عند دور الرعاية بما تشمله من العناية الجسدية، والدور التعليمي الذي يعني بالناحية الأخلاقية والفكرية، وإنما عليهم أيضاً إستغلال علاقة الحب والود الموجودة بينهم وبين أبنائهم في تلقينهم المعلومة لأن هذا من شأنه أن يجعل الطفل يتقبل منهم ما يعلمونه بسرعة ويستوعبه بحب.
عزيزي القارئ.. ساقدم إليك وصفاً لجمودنا وإعتمادنا على ثقافة الذاكرة، وهذا يعود إلى أن المجتمع العربي مجتمع ثابت غير متحرك، بليد غير ديناميكي، يكره التغيير، ويُفضل الثبات، أناسه من حجارة، وليسوا من عجين. ومن هنا كان من الصعب على هذا المجتمع أن يتغير، أو أن يخضع لمتطلبات السوق المتغيرة يوماً بعد يوم. وبالتالي فسياسة التعليم لا تخضع للتغيير، بقدر ما هي ثابتة ثبوتاً أزلياً. بل إن هذا الثبات يعتبر من ضمن ثوابت الأمة. والعرب منذ زمن طويل، يرفضون التغيير والعبور من “القدامة إلى الحداثة”، ومن القديم إلى الجديد، ومن الاتباع إلى الابتداع، ومن الثابت إلى المتغير. وهذه معضلتنا الكبرى، إننا بحاجة إلى حدوث نقلة حضارية في جميع مجالات حياتنا، حتى نعود يوماً مثل ما كنا عليه بالماضي.
والسؤال الذي أختتم به هو.. ألم يأتي الوقت للتغيير الجذري في أنظمة التعليم لدى الدول العربية؟!
الدكتور / رمضان حسين الشيخ
الرئيس التنفيذي لـ شـركة تبيان التعليمية
إستشاري الإدارة والتطوير التنظيمي والموارد البشـرية
مصمم منهج فرسان التميز لتغيير وتطوير المؤسسات