العمل الجماعي وأثره في نهضة المجتمعات
لم يقوم مجتمع إنساني ناجح على وجه الأرض إلا من خلال إتحاد أفراده بغض النظر عن ما يجمعهم من صفات مشتركة، مثل الديانة أو الأصل العرقي أو حتى اللغة، ولكنهم إجتمعوا على تحقيق هدف وهو النهوض بمجتمعهم، لذلك نجد أن كل الحضارات التي ساهمت في أن يتقدم العلم الإنساني والتكنولوجي والإقتصادي وكل أنواع العلوم كان أساسها هو العمل الجماعي.
إن روح العمل الجماعي هى روح العمل الجاد، وهى التي تعمل على تحقيق الأمن والأمان والتطور والرقي على كل المستويات، فرغم تباعد الحدود وإختلاف الصفات لكن ستظل وحِدة الإنسان مع أخيه الإنسان أقوى من أن يتم تفريقها أو قطعها، وقد تم تعريف العمل الجماعي بأنه الإتحاد بين عدد من الأفراد حتى يتم إنجاذ عمل ما أو تحقيق هدف معين من خلال العمل الجماعي.
والعمل الجماعي يمكن أن يتم تطبيقه في المنظمات الدولية أو المحلية والمصانع والمؤسسات التعليمية والشركات وأي منشأه حيوية تقدم خدمة أو تنتج سلعة، أو تخلق نوع من أنواع الإبداع، ويتم تبادل الأفكار من خلال العمل معاً وكذلك الخبرات حتى تصبح النتيجة النهائية هى التقدم وتحقيق النجاح المضمون.
كان لاري بايج وسيرجي برين طالبي دكتوراه بجامعة ستانفورد، وكان بحث الدكتوراه الخاص بهما عن خوارزمية تسهل عمليات البحث على الإنترنت، ولم تكن هذه فكرة ثورية حيث سبقهما إليها بعض الشركات بإنشاء بعض محركات البحث، لكن تميز فكرتهما نابعة من سهولة الحصول على نتائج أكثر دقة وسرعة من غيرهما.
كان بالإمكان أن يظل بحثهما حبيس الرسائل العلمية، لكنهما آمنا بجدوى الفكرة، وسعياً نحن تطبيقها عملياً والإستفادة منها تجارياً فكونا فريق عمل وأسسا شركة سمياها “جوجل”، التي أصبحت عملاق التكنولوجيا والبحث حول العالم حتى يومنا هذا، الفكرة يمكن أن يبتكرها شخص أو عدة أشخاص، لكن تنفيذها والإستفادة منها لا يتم إلا عبر منظومة متكاملة من العمل الجماعي وهو ما توفر في كافة الشركات الناجحة حول العالم.
ما ينطبق على الشركات التجارية ينطبق على المنظمات التطوعية الكبرى عبر العالم مثل أطباء بلا حدود والصليب والهلال الأحمر وغيرها.. كلها بدأت بفكرة شخص أو عدة أشخاص وبدلاً من الإحتفاظ بها في رؤوسهم أو في أدراج المكاتب وتحدثوا عنها مع من يثقون بهم، وبدئوا التشاور مع وضع النقاط الإيجابية والسلبية للفكرة، ثم يضعون خطة عمل متكاملة لإنجازها وإخراجها بالصورة التي تخيلها أصحابها، وخلال فترة العمل يتم تعديل الفكرة بحسب ظروف الزمان والمكان فما ينفع في أمريكا قد يفشل في الصين، وما يتقبله المجتمع العربي قد يرفضه المجتمع الأوروبي، لذلك لابد من وضع خطة تناسب البيئة والثقافة والعادات والتقاليد التي سيتم تنفيذ الفكرة فيها.
بنك الفقراء الذي أسسه “محمد يونس” في بنجلاديش وأستفاد منه أكثر من مليون مواطن خلال سنوات بسيطة في ذلك البلد وبسببه فاز يونس بجائزة نوبل، وكانت فكرة البنك قد بدأت بشخص واحد وسعى صاحبها لتنفيذها بكل جد، وإستطاع صُنع فريق عمل متكامل ومنظومة رائعة، فجاءت نتائجها بصورة مبهرة في أحد أفقر البلدان، لكن هذه الفكرة لم تحقق نفس النجاح عند محاولة تطبيقها في بلدان أخرى كاليمن أو السودان أو مصر “وإن لم تكن كذلك فاشلة تماماً”. سبب تفاوت النجاح يستطيع تحديده المتخصصون، لكن بالتأكيد هناك دور للنظام الحكومي وثقافة المجتمع في كل بلد، لذلك يجب تطور الفكرة بما يتوافق مع كل بيئة، وليس مجرد نسخ الفكرة لأنها بالتأكيد ستحتاج لتعديلات بحسب إحتياجات كل بلد.
إن فكرة عمل الفريق ليست وليدة اليوم لكنها منذ فجر التاريخ حيث كان بداية تكون الدول عبر تكوين منظومات عمل ومجموعات متماسكة، وكلما زاد تماسك وقوة وحجم المجموعة، كلما كانت قوة الدولة أكبر، وكلما زادت القدرة لدى الدولة والمجتمع على الإبتكار والتطور كلما كانت أقوى وأكثر ثباتاً، بدليل أن الشعوب التي أخذت بها كالفراعنة والبابليين والاغريق هي التي نجحت وبقي تراثها وحفظ تاريخها، وفي الدولة الإسلامية قام الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع أسس الدين الإسلامي على الجماعية والأخوة والشورى والتفكير، وإستطاع خلال فترة وجيزة أن يؤسس لأعظم الثقافات في تلك الفترة، واستمرت الدولة الاسلامية في موقعها كإحدى أعظم الدول حتى بدأت عوامل التفكك والتخلف والتشرذم التي قادت لأفول نجم هذه الحضارة وبقائه خافتا حتى الآن.
إن عمل الفريق الواحد من وجهة نظري المتواضعة مثل الدائرة الكهربائية المغلقة، لابد من تواصلها حتى تعمل ولو انفصل منها جزء أو قطع لما تواصلت الدائرة ولتوقف عملها. وكل فرد في فريق العمل له قيمته التي لا يستغنى عنها مهما كان موقعه صغيراً أو كبيراً، لكن لابد لكل عمل جماعي إبداعي من قائد منظم للعمل “قائد وليس مدير” لأن القائد هو من يستطيع أن يتخذ قرارات مصيرية بناء على المرحلة والظروف المحيطة، فيمكنه أن يغير جزءً من الخطة وربما يغير الخطة كلها إذا اقتضت الظروف. أما المدير فلا يمكنه إلا أن ينفذ الخطط بحذافيرها، ولا يستطيع أن يطور أو يعدل في الخطة.
في حياتنا الحالية وما نراه حولنا في مجتمعاتنا نجد أن كل من حولنا في الشركات الحكومية والخاصة والتطوعية هم مدراء فقط وليسوا قادة، وهذا واضح من خلال روتين العمل والتخطيط، وتضارب المهام والوقت المفقود في أعمال غير مهمة إضافة إلى غياب الإبداع والتجديد في العمل.
إن وجود القائد أمر مهم للفريق وربما يتم اختيار القائد بناء على أنه صاحب الفكرة لأنه الأقدر على تنفيذها والأكثر حماساً لإنجاحها ورؤية نتائجها على أرض الواقع، كما رأينا من واقع ستيف جوبز وستيف بالمر مؤسسا شركة أبل كيف استطاعا من خلال تحويل أفكارهما المتعددة من صناعة أكبر شركة في العالم حالياً من حيث القيمة السوقية. أما إذا لم يمتلك صاحب الفكرة قدرات قيادية فيمكن أن يكون أحد أعضاء الفريق ويترك مهمة القيادة لمن هو أصلح منه فالمهم في القائد هي ريادته وقدرته على إتخاذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب حتى يحقق للمنظمة النجاح والإستمرار.
إن الفكرة كالبذرة نزرعها فتنمو البراعم التي تكون الجذور والساق وجذور وساق الفكرة هم فريق العمل الأساسي أو المؤسسون، وبعد أن يشتد العود تأتي الأوراق قليلاً وهم الموظفون الذين ينظمون إلى هذا الفريق، وبناء على عمل الشجرة وبحسب جودة البذرة والتربة والبيئة تبدأ الثمار بالظهور وهي الغاية التي يبحث عنها الجميع.. لذلك ليبدأ كل فرد ببذر البذرة، وعندما تكون البذرة ناجحة في أرض صالحة تنمو وتنمو حتى تعطي ثمارها.
ومما لا شك فيه أن إبداعاتنا وحضارتنا القديمة قد تأسست على العمل الجماعي، ولم تعرف المجتمعات العربية الأعمال الفردية على الإطلاق. ويرجع ذلك لعدة عوامل منها عوامل طبيعية مثل إمتداد الأفق، وتقلبات المناخ، إنتشار الوحوش والزواحف وغير ذلك من العوامل الطبيعية تجعل الفرد على مستوى البنية النفسية يأنس بالآخر، وبالتالي تكون الجماعات في شكل تكتل جمعي، إذ لا نجد إنساناً يحيا بمفرده على تلة جبل أو في كوخ على جانب البحيرة، كما نجد في المجتمعات الغربية؛ وهناك بعض العوامل المجتمعية والتي تتمثل في السلطة المركزية والتي على قمتها شيخ القبيلة. هذه العوامل عملت على وجود نسيج عرضي يعمل على تشابك العلاقات الإنسانية، والتعاون المجتمعي بالإضافة إلى سطوة العادات والتقاليد التي يتوجها مفهوم النخوة والشيمة والمروءة وما إلى ذلك.
كل هذه السمات جعلت من العمل الجماعي ثمرة تجنى على مدار التاريخ والحضارة العربية، والتي تختلف عن تلك السمات في المجتمع الغربي في سمات إبداعاته القديمة والتي تتسم بالفردية، وذلك لعوامل تختلف عن تلك العوامل سالفة الذكر. على سبيل المثال ما نجده في الشعر والموسيقى والنحت وحتى فنون العمارة، نجد تفرد دافنشي وفرجيل وشوبان وغيرهم ممن تفردوا في إبداعهم، بينما نجد أن الشعر لدى العربي يبلغ ذروته في المساجلات وشعر الرد، والهجاء والمدح، ثم إنه لا يقام معمار إلا بيد الجماعة تطوعا وتعاونا ونخوة حتى في إقامة بيت الشَعَر وهو أقل الأعمال على سبيل المثال.
وفي أوج النهضة الصناعية والإبداعية في دول العالم المتقدم نجد أنها إتجهت إلى العمل الجماعي، والتعاون في الإبداع في جميع اتجاهاته ومساراته على مختلف الصعد، بينما نجد أن الإنحسار نحو الفردية والميل للتفرد أخذ مأخذه في بلادنا، وظهور نزعة جديدة من الإقصاء أو حب الإستحواذ، مما يعمل على تدني الروح الإبداعية وتراجع الفهم في الإبداع في العمل الجماعي.
وفي دراسة أجريت حول العمل الفردي والعمل الجماعي نتج عنها أن للعمل الفردي سلبيات، منها أنه “قليل الأثر، ضئيل الثمرات، احتمال الخطأ أكبر، العمل الفردي آفات للقلوب.. لأنه قد يعجب المرء بنفسه، يورث بين الناس الفرقة ويؤدي للجدال، قصير الأمد، يعتريه الضعف بضعف الفرد، قد يورث اليأس عند الناس لمحدودية الأثر”، بينما نجد نتائج مبهرة لنجاح العمل الجماعي ومنها “صاحبه ينطلق بدافع وتحفيز ذاتي كبير، صعوبة إيقافه والتأثير عليه لأن الجماعة إذا ووجهت بالمقاومة دون تماسك ستنفض.
لا يقارن بالعمل الفردي لأنه ضرورة لا بد منها الآن، كثرة العطاء وعظمة النتائج، ربط الناس بالفكرة وليس الشخص، الحصول على فوائد الشورى، التكامل في العمل، العمل المنهجي المنظم، مواجهة تحديات الواقع، تستفيد من تراكم الخبرات، تعاظم الموارد المادية، استثمار الجهود واختصار الوقت، تطوير قدرات الأفراد أنفسهم”، وبالتالي ينسب النجاح للجماعة وليس لفرد على حساب الآخر، فلا مكان للحقد أو الحسد أو التباهي والإستعلاء، وهذا ما تنتهجه الدول المتقدمة في نظم العمل وفي دوائر التعليم أيضاً، فلا تترك ذلك الأثر النفسي من الحساسية بين الفرد والآخر من عوامل الغيرة والإقصاء في بعض الأحيان!
ولنتذكر دوماً أن الفردية والذاتية مرض لا يزال يتفشى بيننا يقودنا إلى التخلف الحضاري على الرغم من أن رواد النجاحات الفعلية أفراد، إلا أنهم يذوبون في العمل الجماعي، ولذا نحتاج في يومنا هذا إلى ذلك التوازن بين الروحين: الفردية الجماعية، مع توفير المناخ المناسب لتنمية شخصياتهم وتذويب الحواجز على أن النجاح الجمعي هو ما يقود الوطن ومؤسساته إلى التقدم والنجاح والتطور، فالنجاحات الفردية نجاحات فردية تذهب بذهاب أصحابها.
أخيراً.. يجب أن نعي جميعاً أنه بالعمل الجماعي الناجح يمكن لأي مجتمع أن يتماسك ويتعاون ويقف ضد أي مشكلة أو فتنة قد تواجهه وتهدد إستقراره، والعمل الجماعي لا يقتصر فقط على المصالح الحكومية أو الأعمال الخاصة، بل أنه يوجد في كل نواحي الحياة، لأنه يحقق لها التنظيم والتكافل والإنضباط والحرص على كتمان أسرار الغير، فعندما يقوم الإنسان بالعمل ضمن جماعة يتعلم قيم كثيرة تجعله إنسان سوي داخل مجتمع حضاري متقدم.
الدكتور / رمضان حسين الشيخ
الرئيس التنفيذي لـ شـركة تبيان التعليمية
إستشاري الإدارة والتطوير التنظيمي والموارد البشـرية
مصمم منهج فرسان التميز لتغيير وتطوير المؤسسات