لماذا سوء الفهم مع الآخرين؟!
لا أظن أن أحداً منا لم يمر بموقف كان سوء الفهم هو سيد الموقف ودائماً ما يكون رد الفعل للجميع هو أن نحمل الآخرين المسؤولية كاملة بدلاً من المشاركة فى تحمل المسؤولية دائماً نعتبر الطرف الآخر هو المخطىء إما لأنه هو الذى لم يفهم أو لأنه لم يشرح جيداً الموقف وإختلاف وجهات النظر يجعلنا نُصر دائماً أن نفهم جيداً قبل أن نآخذ أي ردة فعل لأننا ندرك أن أي فعل قد يصدر عن أي إنسان تكون له مسببات إما ردة فعل لأمر قد حدث أو لأن طبيعة الشخص أن يتصرف هذا التصرف أو مهما كان السبب نحاول أن نفهمه أولاً..
سوء الفهم هو عدم القدرة على التواصل وفشل التواصل وفشل فهم المغزى الحقيقي للحديث، يولد من رحم خلفيات ومفاهيم سابقة تُحاكي سوء نية أو سوء ظن وفي جميع الحالات تسبب ضعفاً في الروابط الإجتماعية وتزرع الأحقاد في النفوس، نحن بشر والبشر خطاؤون إن للأخطاء البشرية النسبة العليا في أزمات سوء الفهم وعليه يجب أن نؤمن بأنها حالة عادية تحدث عندما نسيئ الظن بالآخرين لأنها تعمل على تفكيك التجمعات وتؤدي إلى آثار خطيرة تزعزع علاقة الإنسان بالآخرين، فكم من أسرة تفككت من سوء الظن؟ .
كان لي زميل عندما ينام يجعل هاتفه المحمول في الوضع الصامت حتي لا يزعجه، وعندما يقوم من نومه ينظر إلى هاتفه وكثيراً ما كانت علامات الفزع تظهر على ملامحه عندما يري أرقاماً بعينها.. ظنها زوجته وعندما كنت أسأله: ولماذا هذا الفزع؟.. فيرد علىَ قائلاً بأن الطرف الآخر لن يُصدق أني كنت نائماً وسيظن أني اقصد عدم الرد عليه! “فيزعل ويتقمص”. اذاً الطرف الثاني جاهز دائماً إلى تعليب وتشكيل تصرفات الطرف الأول على أنها مقصوده وموجهه ضده!!
وهنا أتسائل: لمـاذا؟.. سوء الظن.
لماذا.. لا نرجح دائماً حسن الظن عند الآخر.
لماذا نحن جاهزون أن نكون من “المقموصين في الأرض”.. ومن “زعماء جبهات الزعل الدائم”.
إن سوء الفهم ليس أمراً غريباً، بل وليس عيباً أن يُسيئ الشخص فهم أخيه، بل إن الخطأ في الفهم قد حصل حتى من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهناك مواقف كثيرة شاهدة على ذلك، لكن سأكتفي بذكر بعضها: حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة بني قريظة في قصة مشهورة :”لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة” كان منهم من صلى في بني قريظة فأخر صلاة العصر حتى وصل بعد خروج الوقت؛ ففهم أن المقصود أن يصلي العصر نفسها في بني قريظة، ومنهم من فهم النص فهماً آخر، ففهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعجلوا في المسير إلى بني قريظة؛ ومِن ثمّ أدّوا الصلاة في الطريق.
عزيزي القارئ.. إذن لماذا نجد صعوبة في أن نستمع للآخر وأن يفهمنا الآخر، سواء أكان ذلك في البيت أم في العمل وبين الأصدقاء؟ الجواب ببساطة لأنّ سوء الفهم، الذي يتمثل في أفكارنا المسبقة وانتظاراتنا ومشاعرنا التي تؤثر في نقاشاتنا، هو دائماً يلازم أي عملية تواصل.
على سبيل المثال: إليكم موقف بسيط يحدث في حياتنا… قالت ريتال لأختها الصغرى حبيبه: “أنا متعبة جدّاً، أفضل أن نتحدث عن حفل عيد ميلادك غداً”. ولكن حبيبه لم تكن متعبة وكانت تريد أن تتحدث. لهذا، فسرت هذه الأخيرة كلام أختها الكبرى على أنها تريد أن تبقى وحدها بعيداً عن الإزعاج، فخرجت حبيبه من الغرفة وصفقت الباب خلفها. وهذا مجرد مثال عن سوء التفاهم الذي نعيشه يومياً بينما نتكلم مع الآخرين.
لذا، اذا اردنا أن نتبادل أطراف الحديث، علينا أن نكون قادرين على أن ننقل للطرف الآخر ما نشعر به عاطفياً وبدنياً من خلال كلامنا معه، ويجب أن يكون الطرف الآخر بدوره قادراً على أن يشعر بالضبط بما نشعر به نحن. ولكن الحقيقة أنّه مهما كان الطرف الآخر متعاطفاً إلا أن تحقق هذا الشرط للتواصل مستحيل. من وجهة نظري، فإن سوء التفاهم هو الأمر العادي في التواصل بين الناس، وحتى الأشخاص الذين لهم الاهتمامات والميول نفسها، ويهتمون بالقضايا نفسها وبالمواضيع نفسها، يجدون وسيلة لكي لا يتفاهموا، ولكي لا يستمعوا إلى بعضهم البعض. والحقيقة أنّه من خلال حواراتنا، كل منا يسعى بشكل أٌقل إلى أن يتحاور وأن يعطي المعلومة وأن يتفاهم، ويسعى أكثر إلى الاستمتاع بأن تكون له الكلمة الأخيرة.
غالباً، لا يكون لنقاشاتنا أي هدف سوى تقوية قناعاتنا التي كنا نحملها منذ بداية فتح النقاش. فالنقاش هو دائماً طريقة لكي يقول الشخص: “أنا موجود”. ولهذا، كثيراً ما تأخذ نقاشاتنا شكل حوار أحادي “مونولوج” لكن بين شخصين، حيث ينتظر كل طرف بفارغ الصبر أن يسكت الطرف الآخر لكي يقول هو فكرته. لكن يجب على كل منا أن يأخذ من وقته قسطاً لكي يستمع إلى الطرف الآخر ويحترمه ويحاول أن يتبنى طريقة الآخر في النظر إلى الأشياء. لكن، على ما يبدو فإنّ الحقيقة هي أن مخاوفنا وصراعاتنا الداخلية تجعلنا صماً.
وقد إكتشف فرويد آلية نفسية جديدة تقوم بتشجيع سوء التفاهم وتشوش على التواصل ألا وهي انعكاس الذات على الآخر. مثلاً، لا تستطيع ليلى، 55 سنة، أن تجري حواراً واحداً هادئاً مع صغرى بنتيها الاثنتين، منى التي تبلغ من العمر 27 سنة. إنها واعية تماماً بأنها أقل تسامحاً ولطفاً مع ابنتها الصغرى مما هي عليه مع إبنتها الكبرى، لكنها لا تعرف ما الذي يدفعها إلى التحدث مع ابنتها الصغرى هكذا بقسوة. والحقيقة أنّ العينين اللامعتين للطفلة المراهقة تجعلان الأُم تتذكر الغيرة الرهيبة التي كانت تشعر بها تجاه أختها الصغرى في الماضي. فتقوم الأُم بمعاملة ابنتها الصغرى بقسوة لم تكن في الواقع تقصد توجيهها إليها، فالأُم هنا تتعامل مع البنت كما كانت تتمنى أن تعامل اختها. “إن عكس الذات على الآخر أمر يبعثنا إلى سنوات الطفولة الأولى”. تقول المحللة النفسية فيرجينيا ميغلي وتنصحنا من أجل تطوير قدرتنا على التفاهم مع الآخر بأن نتعلم كيف ننصت إلى الطفل الذي كنا عليه في الماضي، وأن نتصالح معه. إنها خطوة أولى مهمة جدّاً لابدّ منها إن كنا نريد أن نتوقف عن تلويث حواراتنا ونقاشاتنا بعكس ذاتنا على الآخر.
عزيزي القارئ.. إنّ الوالدين اللذين يفرضان على طفلهما كيف يجب أن يفكر وكيف يجب أن يحس، وينكرون عليه مشاعره الحقيقية، يمكنهم بهذا التصرف أن يحولوا الطفل إلى متخلف في مجال التواصل مع الآخرين. والشيء نفسه بالنسبة إلى أب أو أم غير قادرين على التعبير عن رغباتهم. وبشكل أقل، بل نادر، نجد أن هناك ميولات اكتئابية لدى البعض هي ما يمكن أن يفسر الإنكفاء على الذات أو النرجسية المبالغ فيها، وتمنعه من أن يجد الآخر مهماً. وكمثال على ذلك الأشخاص المرضى بالبارانويا، الذين يكونون متيقنين بأنّ الآخر يسعى إلى مضايقتهم، فيبقون دائماً في وضعية المدافعين ولا يتفاهمون أبداً معه. ولكن في الحياة اليومية، فإنّ المرض أو الأُم أو التعب الشديد قادرة على التأثير سلباً في قدرة الإنسان على الاستماع والتواصل.
عزيزي القارئ.. نحن نتواصل بطرق كثيرة، نتكلم مع بعضنا، نتحاور، نتحدث عن أنفسنا، نُعبر عن مكنوناتها، نكتب أفكارها، نغني مشاعرها، نسطر خفاياها أبيات شعر متوارية، نرسم أحلامها، نخترع مستقبلها، ندون تاريخها، ونرسم خرائط مشاعرها بطرق كثيرة ومتنوعة. تواصلنا قد يبدأ بلقاء نجتمع فيه حول كوب قهوة وبعض الحلويات أو على مائدة عشاء عامرة تكون مقادير أحد أطباقها مدخلا لحديث يطول، نخرج منه إلى الحديث عن آخر الأخبار الإجتماعية وأحدث الصراعات السياسية والفنية نتشارك الآراء وربما نتجمل كثيرا في محاولة لأن نحصل على تقبل وقبول الآخرين. وتواصلنا قد يكون من خلال حديثنا عن مكنونات أنفسنا مع شخص سمحنا له بأن يتجاوز الحدود التي رسمناها للآخرين، قد نتحدث عن ما نحب وما نكره وما نفكر فيه وما نتوقعه وما نحلم به وما يصيبنا بالخيبة وما يحرك الأمل فينا.
وتواصلنا قد يكون بجلوسنا صامتين في لحظة راحة تزول فيها الأقنعة لا نشعر فيها بالضغط الإجتماعي الذي يجبرنا لأن نملأ الفراغ بالكلام. حتى تعابير وجوهنا هي صورة من صور التواصل؛ فحين يسألك أحدهم “ما بك اليوم يبدو من شكلك أنك تعبان ومرهق؟” استنتاجه هذا ينبع من قدرته على قراءة تعابير الوجه وما تخفيه تقطيبة الحواجب أو الإنتفاخ حول العينيين أو الإبتسامة التي شقت طريقها إلى وجهك بعد مجهود كبير أو حركة خفيفة تحاول من خلالها أن تتحاشى النظر إلى عيون الآخرين. كثيرة هي طرق تواصلنا مع الآخرين، لكن ما أكثر ما نسيء فهمهم وما أكثر ما يفوتون الفرصة كي يستوعبونا.
كل المشاكل الصغيرة التي تكبر فيما بعد تبدأ بسوء فهم صغير حيث تنجح عقولنا في تحوير معنى كلمة قيلت أو رأي سمعناه أو تصرف كنا طرفا فيه، لكن لماذا نسيء فهم الآخرين؟ ألا أنهم أخطأوا في التعبير عن أنفسهم؟ أم لأننا لم نفهم لغتهم ولم نستخدم القاموس المناسب لفك طلاسم تصرفاتهم؟
“أنت لا تفهم” أو “أنت لست أنا” أو “أنت لم تمر بالذي مررت به فلا تحاول أن تتحدث باسمي أو تتخيل أنك تفهم شعوري” كم مرة سمعنا مثل هذه الجمل ومثيلاتها، وتوقفنا قليلا لنتأمل ما قيل وحاولنا أن ندافع عن تصرفاتنا وأفعالنا ووجة نظرنا، وكم مرة توقفنا عند تفسير بسيط يريحنا وهو “أننا نختلف مع الآخرين ولأننا نختلف من الطبيعي أن لا نفهمهم، فليست من مهمتنا فهم كل الأشياء ولا معرفة دواخل الآخرين مهما اختلفوا عنا ومهما اقتربوا منا ومهما إبتعدوا”. لكن هل الإختلاف – الذي هو القاعدة – مبرر كافِ لسوء الفهم الذي يحدث والذي نمر فيه؟
عزيزي القارئ.. كثيرة هي المواقف التي نتعرض لها يومياً وربما تدخلنا في صراعات نحن في غنى عنها بسبب أننا لم نفهمها جيداً، أو لأننا لم نفلح في التعبير عن مشاعرنا، لذلك يمكن للخطوات التالية أن تُحل العديد من المشاكل التي تنتج عن سوء الفهم:
- يُعد سوء الفهم أمر لا شعوري يسعى الجميع للتغلب عليه لذلك وجب التعامل مع الأمور والمواقف بطريقة حكيمة ومعالجة المشاكل بطريقة إيجابية تؤدي إلى حل سليم للمشكلة، وهذا ما سيجعلك تحسن من علاقاتك مع الآخرين وتستمتع براحة البال.
- من أهم الأشياء التي يجب فعلها لتجنب سوء الفهم هو التحدث مع الشخص الذي حدث معه سوء الفهم بصراحة، حيث غالباً ما يظهر أن تصوراتنا حول الأمور كانت خاطئة، وأهم ما يمكن فعله في تلك الخطوة عدم التحدث عبر البريد الإلكتروني، بل يجب التحدث بشكل شخصي لتفادي عدم الفهم.
- يجب التخلي عن عادة الشك فكثيراً ما ينشأ الشك عن طريق حدوث سوء التفاهم، مما يؤدي إلى إتخاذ موقف سلبي تجاه الآخرين خاصة إن لم يحدث هذا في الواقع فيمكن أن يكون هذا الأمر خادعاً للعقل، مما يدفع إلى تكوين صورة سلبية خاطئة أو على الأقل صورة جزئية.
- لا تقم بالتركيز على دوافعك فمصدر سوء الفهم عادة هو وجود دوافع لأشخاص آخرين، فقد يتخذ بعض الأشخاص قرارا في هجوم شخصي أو نقد لشخصية ما، حتى يصبح هذا النقد في بعض الأحيان خاطئاً بنسبة 100%، مما يجعله مدمرا للغاية حتى يتحمل الناس بعضهم، والذي سيزيل التفكير السلبي تماماً بالنسبة لنا، وسيعمل أيضاً على التفكير بعدل وإنصاف في نية الآخرين، وقد نشعر نحن بخيبة أمل عند محاولة الآخرين إختلاق دوافع أيضاً من أجل مهاجمتنا.
- لا يجب أن تطيل التفكير في المواقف التي حدثت فقط، وعلى العكس من ذلك قم بالتفكير في إتخاذ القرارات اللازمة لتسوية الوضع عن طريق التحليل الدقيق لأفكارك سعياً لفصل الأفكار السلبية حتى لا يتحول سوء التفاهم الصغير إلى سوء تفاهم كبير.
- أنت بحاجة إلى إستخدام قلبك إلى جوار عقلك أثناء التفكير، فالقلب هو أفضل من يقوم بتلك المهمة حيث إنه لن يسعى إلى إنتقاد أي شخص أو إنشاء دلالات سلبية.
- لا تقم بتكبير القضايا، فكثيراً ما يحب الأشخاص في لحظات الغضب تحميل الأمور أكبر من حجمها، لذلك يجب تقبل وجهات النظر والإنتقادات الصغيرة التي قد توجه لك.
- حذاري من كثرة الكلام وتأكد من أي معلومة قد تصلك عن الشخص الذي حدث بينكما سوء تفاهم، فكلنا بحاجة إلى معرفة الحقيقة وعدم المخاطرة بخلق سوء فهم لا داعي له من الأساس.
- يجب تغيير طريقة التفكير والإنفتاح على الحقيقة القائلة بأن أية قضية يمكن فهمها بطرق مختلفة وبغير ذلك فإنك ستستمر في الانغماس في الخلافات.
- لا تكثر من الحديث عن نفسك فقط، بل يجب الإستماع إلى الطرف الآخر حتى يكون الجانبان متعادلين ويكون الحل أسهل وأبسط.
عزيزي القارئ.. نحن كأشخاص نكره أن نعترف بأننا قرأنا الآخرين بشكل خاطئ وأعطيناهم انطباعات خاطئة، أو أننا بالغنا برؤية أنفسنا بصور وصفات لا نملكها أو لا نستحقها. ولكن دعنا نفكر بمشاكل سوء الفهم التي كنا المسبب لها، ناهيك عن المشاعر السلبية؛ هذه المهارة تتطلب التواضع والممارسة، ولكنها منطقيًا تستحق كل الوقت.
كما أننا أيضاً بحاجة كبيرة لنشر ثقافة الإعتذار في مجتمعنا، فحين نُربي أبناءنا ونُعودهم على كلمات ومفردات التواضع والاعتذار ومن ثم نعلمهم كيفية الاعتذار فهذا بلا شك يستوجب منا الإشادة بتصرف الطفل أمام الآخرين وتعزيز تلك الفضيلة فيه.
الدكتور / رمضان حسين الشيخ
الرئيس التنفيذي لـ شـركة تبيان التعليمية
إستشاري الإدارة والتطوير التنظيمي والموارد البشـرية
مصمم منهج فرسان التميز لتغيير وتطوير المؤسسات