ما التعليم الذي نريده لأبناؤنا…؟

التعليم الذي نريده ، يجب أن يكون تعليماً من أجل الحياة، وعلى طول درب الحياة، بمعنى أن يرتبط بتجارب الإنسان ومشاكله وعمله وإهتماماته وعلاقاته الفردية والإجتماعية والمجتمعيّة، أن يكون تعليماً واقعياً عملياً، يتأسس على رؤية جديدة أصيلة منفتحة، تلائم تطورات العصر ومتطلباته وطبيعته. وأن يُسهم في إعداد الإنسان القادر على ترقية حياته وواقعه وإدارتهما بشكل يواكب التجديد ويحمله نحو الإنجاز. وأن يجعل الإنسان مكوناً فاعلاً في بيئته ومجتمعه. يقدم ويأخذ في عملية تنمية وبناء ومنفعة. لكنّ أهم ما فيه أن يحمل طاقة الحرية التي تتيح الانفتاح بوعي والتزام على الذات والهوية والآخر المختلف والعالم.
إن إستخدام التعليم ينطلق من حاجة الدول له في تحقيق أهدافها، فهناك دول جعلت التعليم طريقها للاستقلال ورمزاً لعدم الخضوع والنهوض من كبوتها مثل فيتنام، وهناك دول جعلت التعليم وسيلة للعمران والتفوق في مجالات معينة مثل ألمانيا وكوريا وتايوان، وهناك دول كان التعليم الوسيلة الوحيدة “لتعوض به” سقوط إمبراطوريتها العسكرية وتحل مكانها إمبراطوريتها التكنولوجية حيث لازم شعور الغضب والعزم على إسترداد مكانة اليابان المفقودة كل فرد فيها.. وكذلك هناك دول كان التعليم وسيلتها لتحقيق طموحات شعوبها بأن عرفت “ما تريد” وبالتالي حققته بالتعليم ومن ذكاء قادتها نظروا إلى الدوافع التي تسير الشعب لتحقيق غايته بجانب الإعتزاز الوطني والطموح فكان الدين الدافع الرئيسي والمحرك النفاث الذي إنطلق بماليزيا في سماء التقدم الصناعي مشكلاً بذلك دائرة متكاملة من الموارد والتعليم والتكنولوجيا والأيدي الماهرة وسوقاً كبيرة لمنتجاتها والإعتماد بشكل كبير على ما تنتجه ماليزيا من المواد والبضائع والآلات في تنمية المجتمع الماليزي.
ولطالما كان التعليم بالنسبة لكل أسرة إستثماراً إقتصادياً بحتاً، الهدف منه أن ينشل “الإنسان المتعلم” عائلته من الفقر والعوز، أو أن يُحافظ على المستوى الإقتصادي والإجتماعي لها. ولعل السبب في مركز الصدارة الذي تبوأه المعلم في مجتمعنا، يعزى في حقيقته، إلى أنه “المعلم” شكّل وسيلة المجتمع لتأسيس رأس مال إقتصادي ممثلاً “بالانسان المتعلم”، والذي غالباً ما ذهب للوظيفة في الحكومة باعتبار أن الدولة كانت أهم مشغّل في سوق العمل.
والواقع أن هناك فهماً ضمنيا مشتركاً في مجتمعنا اليوم، مفاده أن التعليم بشكله الحالي يعتبر استثماراً اقتصادياً فاشلاً؛ ذلك أن مجموع الكفاءات والمهارات التي يتخرج بها الطالب من المدرسة والجامعة لا يتناسب مع متطلبات سوق العمل. ولهذا، فإن “الانسان المتعلم” يتخرج ولا يجد وظيفةً، أو قد يجد وظيفةً براتب متدنِ. وبوهم أمان الوظيفة في الدولة، يلتحق بالقطاع العام، حتى باتت الدولة تمثل بيت أبي سفيان للتوظيف؛ من دخلها فهو آمن، الأمر الذي أوصلنا إلى هذا التضخم في القطاع العام.
من هذه الزاوية، فإن إصلاح التعليم أضحى مطلباً وطنياً محل إجماع المجتمع، بل هو معركة بين استمرار الوطن في فشل التعليم وبين نجاحه. فإن اختلف الناس على مضمون الإصلاح، فإنه لا يجوز أن يختلفوا على ضرورته على الصعيدين المدرسي والجامعي.
في هذا السياق، فإن إصلاح التعليم يجب أن ينطلق من رؤية شمولية وطنية علمية غير مؤدلجة؛ رؤية تبدأ بمراجعة فلسفة التعليم بهدف إعادة القيمة الإقتصادية والتربوية للعملية التعليمية وقيمها. مراجعة تجيب عن سؤال وطني أساسي هو: ماذا نريد من التعليم؟ بحيث تشكل الإجابة العلمية الموضوعية عن هذا السؤال، أسس الإصلاح التعليمي، بما يحقق حاجات مصر الإقتصادية والإجتماعية، ونجاح طلبته الأكاديمي والقيمي، بعيداً عن التمترس الأيديولوجي أو التغريبي الاستشراقي.
سؤال مهم بأهمية التعليم وكبير بحجم الوطن، بسيط في ظاهره، لكنه يستدعي الكثير من التفاصيل، بل الكثير من إختلاف وجهات النظر حتى بين المختصين أنفسهم، فقد تطرق لهذا السؤال الفلاسفة والمثقفون والتربويون منذ القدم وحتى العصر الحديث من أمثال روسو وجون ديوي وبورديو وغيرهم، كل أعطى وجهة نظره فيما يجب أن تكون عليه المدرسة حتى تؤدي دورها، والدول التي وصلت حديثاً إلى مصاف الدول المتقدمة كسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وقبل ذلك اليابان، وأخيراً الصين القادمة إلى العالم بقوة عرفت كيف تجيب على هذا السؤال ثم اتخذت الخطوات المناسبة والشجاعة لبناء حاضر يليق بها ومستقبل تنعم فيه بالرخاء والقوة، هذه الدول جعلت من التعليم أحد محاور التقدم المهمة.
حقاً، هل صنعنا مثقفين وقادة رأي ومهندسين واطباء ومحامين أفذاذاً، ان الكتب والمناهج التي تدرس في جامعاتنا هي نفسها الكتب التي تدرس في جامعات العالم المتقدم إذ ان قوانين الفيزياء والمعادلات الرياضية والعلوم الهندسية هي نفسها لم تتغير، ولدينا أساتذة عباقرة وافذاذ يشهد لهم الجميع، ولدينا الوسائل والامكانيات، ولكن أين المشكلة؟ المشكلة أن الدولة لم تخبر الطالب منذ دخوله سلك التعليم ماذا تريد منه! وما هو الدور المطلوب منه؟ إن إختفاء الهدف من أمام الرامي يجعل بندقيته الجميلة والمحشوة بأفضل الطلقات النارية لاتعمل، إن العمل لايكتمل الا بتحقيق النتائج على أرض الواقع، وها هي أروقة الجامعة ورفوفها ممتلئة بالدراسات والبحوث في كل شيء ولكن!، لقد تحولت الجامعة إلى مؤسسة تمنح طلابها شهادات يستعينون بها على وظيفة أو منصب فقط.
إن الحل يكمن في توضيح ماذا نريد؟ وماذا نتعلم لنتجه إلى ما نريد، وكيف نتعلم لنحقق ماذا نريد، والأهم من ذلك بث الروح والدافع والتذكير بالهدف المطلوب من أول يوم يذهب فيه الطالب إلى المدرسة
وحتى ينجح القائمون على التعليم في أداء مهمتهم السامية عليهم الإجابة على هذا السؤال حتى يسهل وضع المناهج وحسن إختيار المعلم وتأهيله، واضعين أمام أعينهم الوطن وتقدمه، دون الالتفات لأي إعتبارات أخرى كل ينادي بها من وجهة نظره.
ومن المهم أن يحدد المسؤول كيف يريد أن تكون المخرجات حتى يضع الأسس الصحيحة للمدخلات، أو كما قال ستيفن كوفي في كتابه الرائع (العادات السبع): “ابدأ والنهاية ماثلة أمامك” فيُوضع عدد من الأهداف لكل مرحلة من مراحل التعليم بدءاً من مرحلة رياض الأطفال التي هي الأساس للتعليم المميز، وحتى المراحل العليا من التعليم، وفي رأيي أن من أهم الأهداف التي يجب أن يركز عليها من أجل جيل قوي يأخذ المجتمع إلى مصاف الدول المتقدمة هو ما يلي:
- أولاً: الإنتقال من الحفظ والتلقين إلى الفهم والتفكير، ومن التسليم بكل ما توصل إليه السابقون إلى مناقشته ونقده وإجراء التجارب للتأكد من صحته، ثم القدرة على توظيفه، مع التركيز على مادة الرياضيات التي تعطي العقل ما تعطيه التمارين الرياضية للجسم، والهدف من هذا كله هو بناء إنسان يستطيع التفكير والخلق والإبداع، ولديه القدرة على الإبتكار الذي أصبح هو سمة العصر الحاضر وأساس الاقتصاد القوي وتراكم الثروات لديه. إن القدرة على التفكير والتحليل والمساءلة والنقد ستمد الوطن بما يحتاجه من قادة ومفكرين وعلماء ومخترعين ومبدعين لديهم القدرة على الإبتكار، وستجنب أبناءنا خطر سهولة تجنيدهم من قبل المتطرفين وتجار المخدرات وبائعي الوهم ومروجي الإشاعات.
- ثانياً: المدرسة هي المكان المناسب لزرع القيم والعادات السليمة والمفيدة ومحاربة العادات المضرة، خاصة مع غياب التربية السليمة في أكثر البيوت، ومن القيم التي يجب أن تكون حاضرة في مناهج التعليم وتمارس في المدارس قيمة الصدق والإحترام والتعاون والإلتزام بالوقت وحسن إستثماره، وزرع عادة القراءة حتى يستمر التعليم مدى الحياة. والشرط المهم لزرع هذه القيم والعادات الجميلة هو ممارستها في كل الأنشطة المدرسية ومنذ دخول الطالب في الصباح وحتى خروجه، كما يجب أن تكون هي السائدة بين المعلم وطلبته وبين الطلبة أنفسهم، فلا فائدة من وضعها كنصوص أو حفظها كأقوال مأثورة أو وضعها على أسوار المدرسة دون تطبيقها، مع التأكيد عليها في كل مراحل التعليم حتى تترسخ العادة وتصبح سلوكاً تلقائياً.
- ثالثاً: المدارس هي المكان المناسب لتخريج جيل يتمتع بالصحة والقوة البدنية ومكافحة عادة التدخين القاتلة وإنحدار الأخلاق التي أصبحت منتشرة بين الصغار والكبار وغيرها من المشكلات الحياتية التي نراها يومياً، ويجب على المدارس أن تركز على الرياضة التي تجلب النشاط وتطرد الملل وتعلم التعاون وروح الفريق وتحبب الطالب بمدرسته، الرياضة واللعب من أهم أساليب التعليم الحديث وخاصة لصغار السن بدل إبقائهم لساعات طويلة مسمرين على الكراسي.
- رابعاً: السلوك الحضاري والتعامل الحسن مع الغير وإحترام البيئة ونظافتها وعدم العبث بالممتلكات من أهم الدروس التي يجب أن يتعلمها الطلبة في المدارس عن طريق تشجيعهم على الإنخراط في الأنشطة المجتمعية والنشاط الكشفي والرحلات داخل الوطن وخارجه، وإعطاء الطالب الفرصة لممارسة القيادة ومهارات التواصل المطلوبة لسوق العمل والتأهيل المهني مع الإستفادة من الدول الرائدة في هذا المجال مثل ألمانيا واليابان.
عزيزي المسؤول.. إننا نريد التعليم الذي يؤهل ابناؤنا للحياة، يُهذب تصرفاتهم، يُحصنهم ضد الرذيلة والجريمة والتعصب، ويقود إلى تطوير المجتمع، ويجعل المجتمعات قادرة على تبني حلول عملية للمشاكل الإجتماعية، ومن أجل تحقيق الأهداف الأساسية للتعليم لابد من توفير البيئة الإيجابية المناسبة، والإنتقال بأساليب التعليم من التلقين إلى تنمية القدرات العقلية وتشجيع الإبتكار والإبداع، كما أن ذلك يتطلب المراجعة المستمرة لمناهج التعليم وتطويرها بما يتلاءم مع التغيرات العالمية المتسارعة، والبحث عن أفضل الطرق والوسائل التعليمية التي تحقق أعلى مستويات التعلم، وتشجيع البحوث العلمية التي تكشف واقع التعليم، وتعالج مشكلاته، ونشر ثقافة الجودة، وتكثيف البرامج التدريبية في المؤسسات التعليمية، والعمل على تفعيل المنهج الحديث الذي لا يكتفي بالكتاب المدرسي، ويعمل على إستخدام مصادر متعددة للتعلم، ويركز على تفاعل عناصر البيئة التعليمية بما فيها المعلم.
إننا نريد أن يكون للتعليم في مجتماعاتنا العربية الريادة في كل شئ وأن يسير بالمجتمع إلى الأمام، وأن يكون هذا القطاع الهام هو من يساعد على التحول بفكر متوثب متجدد مواكب للعصر ومنسجم مع التطلعات الكبيرة، لا أن يسير بفكر رتيب وطريقة نمطية وإجرائية بيروقراطية. ويجب أن يكون هدفنا هو أن نكون في مقدمة الطليعة، بنظام تعليمي رفيع المستوى، مبني على الإبتكار والإبداع والروح الخلاقة والمبادرات التي تسهم في إحداث النقلة الحضارية للعالم.
الدكتور / رمضان حسين الشيخ
الرئيس التنفيذي لـ شـركة تبيان التعليمية
إستشاري الإدارة والتطوير التنظيمي والموارد البشـرية
مصمم منهج فرسان التميز لتغيير وتطوير المؤسسات